حديث: إن داود - عليه السلام - كان لا يأكل إلا من عمل يده
شرح سبعون حديثًا (4)
4- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن داود - عليه السلام - كان لا يأكل إلا من عمل يده))؛ رواه البخاري.
الإنسان لا ينبغي له أن يعلق نفسه بالمال، فيتطلع إليه أو يسأل؛ لأن ذلك يؤدي إلى ألا يكون له هم إلا الدنيا، والإنسان إنما خُلق في الدنيا من أجل الآخرة؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
وقال - تعالى -: ﴿ بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [الأعلى: 16 - 17].
فلا ينبغي للإنسان أن يعلق نفسه بالمال ولا يهتم به، إن جاءه من غير تعب ولا سؤال، ولا استشراف نفس، فيقبله، وإلاَّ، فلا؛ فكان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يسأل أحدًا شيئًا، وإذا جاءه شيء من غير سؤال قبِله، وهذا غاية ما يكون من الأدب، ألا تذل نفسك بالسؤال، ولا تَستشرف للمال وتُعلِّق قلبك به.
وإذا أعطاك أحد شيئًا، فاقبله؛ لأن رد العطية والهدية قد يحمل من أعطاك على كراهيتك، فيقول: هذا الرجل استكبر، هذا الرجل عنده غطرسة، وما أشبه ذلك؛ فالذي ينبغي أن من يعطيك، تقبل منه، ولكن لا تسأل، إلا إذا كان الإنسان يخشى ممن أعطاه أن يمنَّ به عليه في المستقبل، فيقول: أنا أعطيتك، أنا فعلت معك كذا وكذا، وما أشبه ذلك، فهنا يرده؛ لأنه إذا خشِي أن يقطع المعطي رَقبته بالمِنة عليه في المستقبل، فليَحمِ نفسه من هذا، وينبغي للإنسان أن يأكل من عمل يده، ويتعفَّف عن السؤال، وأن يكتسب ويتَّجر؛ لقول الله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا ﴾ [الملك: 15]؛ أي: في أنحائها.
﴿ وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [الملك: 15]؛ أي: ابتغوا الرزق من فضل الله - عز وجل.
وقال الله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الجمعة: 10].
فقال: انتشروا في الأرض، وابتغوا من فضل الله.
ولكن لا يُنسينك ابتغاؤك من فضل الله ذكرَ ربك؛ ولهذا قال: ﴿ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾.
ما ثبت في صحيح البخاري أن داود - عليه السلام - كان يأكل من كسْب يديه، وكان داود يصنع الدروع؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ ﴾ [الأنبياء: 80]، فكان حدَّادًا.
أما زكريا، فكان نجارًا يعمل وينشر ويأخذ الأجرة على ذلك، وهذا يدل على أن العمل والمهنة ليست نقصًا؛ لأن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كانوا يمارسونها، ولا شك أن هذا خير من سؤال الناس؛ حتى إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - قال: ((لأن يأخذ أحدكم حزمة من حطب على ظهره، فيبيعها - يعني: ويأخذ ما كسَب منها - خيرٌ له من أن يسأل الناس؛ أعطوه، أو منعوه)).
ولا شك أن هذا هو الخُلق النبيل، ألا يخضع الإنسان لأحد، ولا يذل له، بل يأكل من كسب يده، من تجارته أو صناعته أو حرثه؛ قال - تعالى -: ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [المزمل: 20]، ولا يسأل الناس شيئًا، والله الموفق.

0 التعليقات:
إرسال تعليق